الهندسة الاجتماعية وبُعدها السياسي،
بقلم: أ.د. خالد عبدالقادر منصور التومي،
انطلاقًا من مبدأ "أن البُعد السياسي يُعد بُعدًا طبيعيًا وحتميًا للحياة الإنسانية"، هذا؛ بما جعل الإنسان كائنًا سياسيًا بقدر ما هو كائن اجتماعي، الأمر الذي يجعل كل وجود ونشاط إنساني وجودًا ونشاطًا اجتماعيين وسياسيين بالقدر والوقت نفسهما، سواءً أكان بشكل خفي وغير مباشر وجزئي، أو بشكل صريح ومباشر وكلي.
بهذا يتطور البُعد السياسي في ظل الهندسة الاجتماعية ليكون بُعدًا عامًا ودائمًا للحياة الإنسانية، إذ لا يخلو منه أي اجتماع إنساني في أي زمان أو مكان بالرغم من تعدد واختلاف صيغ حضوره في كل مجتمع تبعًا لطبيعة هذا الأخير واحتياجاته وأهدافه، بيد أنه البُعد الحاكم لهذه الحياة على المستويين الفردي والمجتمعي، وأيضًا المتحكم في مكوناتها وأوجهها؛ ليصبح المسيطر عليها مهما كان الشكل الذي تظهر فيه الممارسة السياسية في الحياة الاجتماعية أو طبيعة هذه الممارسة وحجمها ودرجة تنظيمها واستقلالها وتطورها.
هنا نستنتج أن هذا البُعد ينعكس مرتين على الهندسة الاجتماعية:
الإنعكاس الأول: أن هذه الهندسة تُعد نشاط إجرائي عملي تسعى السلطة السياسية الحاكمة لممارسته فعليًا، أو على الأقل تسعى لإخضاع ممارساته ومن يمارسه لإشرافها وتوجيهها.
الإنعكاس الثاني: أن هذه الهندسة ذات محتوى وهدف ومشروع سياسي، لأنها تُجرى في مجتمع يغلب عليه الطابع السياسي، وتستهدف تأييد السلطة السياسية الحاكمة فيه أو معارضتها سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.
وذلك من واقع أن تأكيد التماثل التطابقي بين التربية والتنشئة على المستوى الدلالي العام وأيضًا على مستوى الأبعاد الخاصة، طبعًا بما فيها البُعد السياسي المتمثل في التربية السياسية والتنشئة السياسية، الأمر الذي دعا لاقتراح الإشارة إلى كل من التربية والتنشئة بمصطلح "الهندسة الاجتماعية"، بيد أن هذين التماثلين التطابقيين يؤسسان للاستعاضة عن مصطلحي التربية السياسية والتنشئة السياسية؛ بمصطلحي الهندسة الاجتماعية والهندسة السياسية أو الهندسة الاجتماعية – السياسية، هذا؛ حين يجتمع في هذه الهندسة ما هو اجتماعي وما هو سياسي في آن واحد.
بهذا تتجلى جُملة عوامل من شأنها أن تتسبب في الحضور الدائم والمؤكد للبُعد السياسي في الهندسة الاجتماعية "نشاطًا ومفهومًا"، وهُم على النحو التالي سرده تباعًا:
1. طبيعة الإنسان الاجتماعية تُعد طبيعة سياسية، بما يجعل هذه الحياة ذات طبيعة سياسية حتمًا، أيضًا بما فيها هندسة الخصائص الإنسانية الفردية والاجتماعية.
2. عادةً ما ترتبط بتوافق الأنظمة الفكرية والقيمية والسلوكية للفرد والمجتمع، أو تعارضها مع السلطة الحاكمة وسياساتها وقراراتها.
3. عادةً ما ترتبط بالأهداف السياسية للقوى والمؤسسات الاجتماعية داخل السلطة وخارجها، بيد أن هذه القوى والمؤسسات مسؤولة عن تحديد مضمون هذه الهندسة وتعيين أهدافها وتصميم برامجها وتوفير مواردها وأدواتها واستخدامها.
هنا نستنتج أن البُعد السياسي للهندسة الاجتماعية لم يكن غائبًا عن الأدهان لا في وجوده ولا في أهميته، إذ تجسد قديمًا في التربية "التربية السياسية والسياسة التربوية"، وتجسد حديثًا في التنشئة "التنشئة السياسية وسياسة التنشئة"، وسيتجسد مستقبلاً في الهندسة الاجتماعية "الهندسة السياسية وسياسة الهندسة الاجتماعية"، وكانت كلاسيكيات الفكر السياسي شهدت أول إشارات مُبكرة طبقًا للإضافة أفلاطون إلى أفكار أستاذه سقراط، وهما:
1. إن التعليم هو الوسيلة الإيجابية التي يستطيع عبرها الحاكم تكييف الطبيعة البشرية على النحو الكفيل بإيجاد دولة متجانسة.
2. إن الدولة أولاً وقبل كل شيء؛ منظمة تعليمية.
ختامًا .. تنتهي هاتان الفكرتان إلى التأسيس الفكري للبُعد السياسي وارتباطه بالهندسة الاجتماعية للإنسان والتأكيد عليه، بيد أنهما تقدمان تفسيرًا وتعليلاً كافيين للعلاقة الشرطية التي أقامها أفلاطون في جمهوريته بين وجود المدينة الفاضلة واستمرار نظام الهندسة الاجتماعية فيها، والمصمم والمخطط لها سلفًا من السلطة السياسية الحاكمة لصناعة الخصائص الاجتماعية المرغوبة واللازمة للإنسان والمجتمع، بغرض صناعة مواطنين متماثلين ومتوافقين مع بعضهم البعض، ومع خصائص هذه المدينة وطبيعة نظام حكمها.