أصبح العلم هو مستقبل الأمم والشعوب، وأملها في تحقيق نهضة حقيقية، خصوصا إذا كان علما نافعا، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة؛ إذ به يتم توفير حياة أفضل للأفراد والمجتمعات. ولن يتحقق هذا إلا بالارتقاء بالمدرسة، وتطوير دورها، وتجويد عملها، حتى تستطيع القيام بدورها في النهضة العلمية، وتحقيق التنمية المستدامة.
إذا كانت أحد الأسس التي تقوم عليها المدرسة هو المناهج الدراسية، باعتبارها خارطة الطريق لبناء المعرفة، ونشر القيم، وتنمية كفايات المتعلم وإنماء قدراته، وتطوير مهاراته، والارتقاء بسلوكه؛ فهذا يقتضي تجديد المناهج والبرامج الدراسية وتطويرها، حتى تستطيع مواكبة المستجدات والمتغيرات التي يعرفها العالم في كافة الصّعد. والاهتمام بالعلم والتربية، يقتضي الاهتمام بالمدرس والطالب والمعرفة المُدَرَّسة، والتي يُعبر عنها في علوم التربية” بالمثلث الديداكتيكي” لذلك يتطلب تطوير مهارات التدريس لدى المدرس، وتطوير مهارات التفكير لدى الطالب، وتجديد مضامين المعرفة المُدرَّسة قصد مواكبة المستجدات والمتغيرات، وإلا ستبقى المدرسة ومكوناتها محصورة داخل صندوق، لا تساهم في نشر معرفة، ولا تحقيق نهضة. والمقصود بالصندوق هي الأنماط السلوكية التي تجعل الإنسان حبيساً لها، وتَحُدُّ من رؤيته للفرص، والحلول التي تزخر بها حياتنا. والصندوق يُمثل الحدود التي تضعها أمام نفسك، والتي تعيقك عن الابتكار والإبداع، ولا تسمح لك بأن تكون مُبدعاً، لذلك عندما يُخبرك أحد بأنه عليك التفكير خارج الصندوق، فهو يعني أن تخرج من الدائرة المُغلقة التي تضع نفسك فيها، وأن تسمح لعقلك بتخطي حدود الصندوق العقلي الذي وضعته لنفسك. فالأشخاص الذين يفكرون داخل الصندوق، غالبا ما يحددون الإطار العام الذي يفكرون فيه، وكأن عقولهم داخل صندوق مُحكم. تخيلوا أننا نفكر في حل مشكلة ما ونحن حبيسو تلك الصناديق. غالباً سوف نحصل على أفكار نمطية جدا، لا جديد فيها ولا إبداع.
ما الذي يجعل الإنسان يفكر داخل الصندوق؟
تؤثر عوامل عدة في جعْلِ الإنسان يفكر داخل صندوق، منها عوامل وراثية، ومنها البيئة التي يعيش فيها، ونوعية التعليم الذي يتلقاه، والتأثر السلبي بالشخصيات النمطية في التفكير؛ حيث يميل الناس غالبا إلى الاستسلام لأفكار الأشخاص الأكبر سنا، على اعتبار تجربتهم في الحياة، وكذلك أصحاب المناصب العليا، بحجة تجاربهم، وخبراتهم في العمل، ولكن سياق تجاربهم، قد لا يكون قابلاً للتطبيق في الوقت الحاضر. كما تجد الفرد داخل المدرسة، أو المؤسسة، أو الجمعية، أو الهيئة.
غالبا ما يُردد قول أصحاب الأقدمية في المنصب بدعوى التجربة والخبرة، نعم، يمكن أن نستفيد من تجارب الآخرين، ولكن لا شيء يمنع من التعديل عليها، والتفكير خارج الصندوق.
قصة للتفكير خارج الصندوق: كيف تحدد ارتفاع ناطحة سحاب باستخدام الباروميتر؟!
كان هذا أول سؤال في امتحان الفيزياء في جامعة كوبنهاجن في الدنمارك، وطبعاً فإن الإجابة الصحيحة والتقليدية لهذا السؤال هي: قياس الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض، وعلى سطح ناطحة السحاب! إحدى الإجابات استفزتْ أستاذ المادة، فقرر أن يُرسب صاحبها دون قراءة بقية إجاباته، والإجابة المستفزة كانت: أربط الباروميتر بحبل طويل وأنزل الخيط حتى يلمس الأرض، ثم أقوم بقياس طول الحبل! في رأي الأستاذ كانت هذه إجابة غبية لا علاقة لها بالفيزياء! اشتكى الطالب إلى الجامعة، مؤكداً أن حَلَّه صحيح، فعيّنت الجامعة خبيراً للفصل بين المعلم وتلميذه. اعتبر الخبير أن الإجابة صحيحة، ولكنها فعلاً تدل على جهل بالفيزياء، ولكنه قرر أن يمنح الطالب فرصة، ويعيد طرح السؤال عليه شفهياً، فقال الطالب: حسناً، هناك عدة إجابات وليس إجابة واحدة!
يمكن إلقاء الباروميتر من أعلى ناطحة السحاب، وقياس الزمن الذي يستغرقه للوصول إلى الأرض، ومن ثم يمكن حساب ارتفاع ناطحة السحاب، باستخدام قانون الجاذبية!
إذا كان الطقس مشمساً، يمكن قياس طول ظل الباروميتر، وطول ظل ناطحة السحاب، فنعرف ارتفاع ناطحة السحاب من قانون التناسب بين الطولين والظِّلين!
أما إذا أردنا حلاً يريح عقولنا، فنعطي الباروميتر لحارس ناطحة السحاب، نَظِير أن يخبرنا عن طولها!
وإذا أردنا تعقيد الأمور، فنحسب ارتفاع الناطحة بواسطة الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض، وعلى ناطحة السحاب، باستخدام الباروميتر! هذا التلميذ المدهش هو «نيلز بور Niels Bohr» ولم ينجح في مادة الفيزياء فقطـ، بل هو الدنماركي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء! كما وضع نظريته عن ’’تكوين الذرة والجسيمات‘‘ مما جعل ألبرت أينشتين يبدي إعجابه بها، واصفًا إياها بالتحفة الرياضية.
من خلال هذا المثال، يتبين لنا خروج الطالب عن التفكير النمطي الذي اعتاده باقي زملائه الطلاب، وحتى أستاذه. ومهمة المدرسين هي مساعدة طلابهم على أن يحلقوا بأجنحتهم عاليا، لأن يقصوا أجنحتهم (أجنحة الإبداع والتفكير والابتكار) ويتركونهم محصورين داخل صندوق. فالعالم الآن يعرف مشكلات كثيرة، وفي مجالات عدة، وهذا يتطلب تجديد أساليب التفكير، وتطوير طرائق التدريس، لتصبح المدرسة مؤهلة للقيام بهذه المهام. وكما يقول ألبرت انشتاين: ’’وإن المشكلات الكبيرة التي تواجهنا، لا يمكن حلها بنفس مستوى التفكير الذي أدى إلى إيجاد هذه المشكلات نفسها.‘‘
ويمكن القول أيضا: لن تستطيع الخروج من الصندوق، إلا إذا غيرت شيئا تقوم به يوميا.
كيف نفكر خارج الصندوق؟
من الوسائل المعينة على الخروج من الصندوق:
أولا: القراءة، ما لا يَحتمل الشك، أن القراءة هي أهم وسائل التعليم في حياة أي إنسان، والتي يستطيع الإنسان من خلالها أن يَكتسب مزيدًا من الأفكار، والرُّؤى، والمعارف والعلوم، التي تُفيده في سائر مجالات الحياة، ومن خلالها يتمكن الإنسان من تطوير ذاته، والوصول إلى آفاق جديدة. ولعل أهمية القراءة تتَّضح بشكل أكبر إذا ما نظرنا إلى القرآن الكريم الذي أول ما نزل منه، قول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5] فهذه كانت الكلمات الأولى التي تم توجيهها إلى النبي محمد ﷺ، والتي تدلُّ على أن القراءة في الإسلام في غاية الأهمية، التي ينبغي على كل مسلم تحصيلها، ونشرها بين أفراد المجتمع.
والسمة المشتركة للعلماء المؤثرين، والقادة المتميزين، والأشخاص الناجحين هي أنهم يداومون على القراءة يوميا. يقول ابن الجوزي: ’’ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب! فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سِير القوم، وقدر هِممهم، وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم: ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب. ولله الحمد.‘‘*
ومن العلماء الذين كانوا مبدعين، وكانت لهم آثار عظيمة في تاريخ البشرية توماس أديسون مخترع المصباح، سئل في آواخر حياته: ما أسباب نجاحك؟ فقال: ’’القراءة الدائمة بلا انقطاع، والعمل الدائم بلا يأس.‘‘ كما نجد: بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، والمدير السابق لها، فهو يعلن في مدونته كل عام عن قائمة الكتب التي قرأها واستفاد منها والتي تصل إلى 50 كتاب سنويا. وفي مقابلة أجراها في نيويورك تايمز، قال غيتس: ’’في هذه الأيام، يمكنني أيضًا زيارة أماكن مثيرة للاهتمام، والالتقاء بالعلماء، ومشاهدة الكثير من المحاضرات عبر الإنترنت، لكن القراءة لا تزال هي الطريقة الرئيسة التي أتعلم بها كل من الأشياء الجديدة، وأختبر فهمي.‘‘ ويضيف: ’’أحد الأشياء التي أحبها في القراءة، هي أن كل كتابٍ يفتح آفاقا جديدة من المعرفة.‘‘
إذن، لنتعلم التفكير خارج الصندوق، ينبغي أن تكون القراءة عادة يومية وضرورة. ما زال هناك اعتقاد راسخ لدى كثيرين منا، بأن القراءة رفاهية أو أمر ثانوي نقوم به في أوقات الفراغ. بل لا زال كثير من المُدرسين في المؤسسات التعليمية، يكتفون بتزويد معارف دراسية لطلابهم، محصورة في المقرر الدراسي. ومما ينبغي تنبيه المدرسين إليه، أن تكوين متعلمين متميزين، وطلبة مبدعين، لا يحصل بالخلاصات والمحفوظات فقط، بل يقتضي تزويدهم بقوائم القراءة والاطلاع، كل حسب مستواه، وإفهامهم أن الاطلاع الواسع والعميق، هو السبيل لتكوين المعرفة، واكتساب مَلَكة الفهم، وأن التغلغل في أعطاف الكتب، سيكشف لهم أغوار المسائل والقضايا المبحوث فيها. لذا، يُنْصح المتعلمون والمُدرِّسون، والراغبون في تولي مراكز القيادة، أو المقبلون على مناصب رفيعة، بمزيد من القراءة والاطلاع.
والمتأمل لأبرز القياديين المؤثرين في العالم، يجد أن الكتاب هو جليسهم، مهما كانت مشاغلهم. ونظرا لأهمية القراءة تحتفل
منظمة اليونيسكو يوم 23 أبريل (نيسان) بيوم الكتاب العالمي، وذلك ترويجا لقراءة الكتب.
ثانيا: التعلم الذاتي المستمر، التعليم هو ما يبقى، بعد نسيان ما تعلمه المرء في المدرسة – ألبرت آينشتاين- يمكن للتعليم الرسمي أن يمنحنا الأدوات التي نحتاجها، لكي نصبح متعلمين مدى الحياة، ولكن التعليم الذاتي يمنحنا الأدوات اللازمة لنصبح فاعلين، ومبدعين في مجالات مختلفة مدى الحياة. وهناك قائمة طويلة بأكثر الأشخاص نجاحا في العالم، الذين اعتمدوا على التعليم الذاتي في تطوير قدراتهم الإبداعية.
وفي عالم الأعمال أقوى الشركات، وأكثر رواد الأعمال نجاحا، وثراءً مثل: بيل غيتس، مارك زوكربرج، ستيف جوبز وكثيرون. اعتمدوا على ذواتهم في تطوير إمكاناتهم، وتمتعوا بقدر كبير من مهارات التعليم الذاتي في اكتساب المعرفة، مما يؤكد أن التعلم الذاتي مفتاحُ النجاح الحقيقي.
التعليم الذاتي جزء حيوي من نمو الفرد وتطوره، فهو يساهم في بناء وعيه ومعارفه، ويساعد في تطوير المواهب، وتحسين المهارات الشخصية، وصقل المهارات، ويرتقي بالفرد من مدارك الجهل والخمول، إلى مراتب أرباب الحكمة والعقول. ويدفعه إلى التحفيز المستمر والإلهام، ويساعده ليكون أفضل نسخة من نفسه، ويساهم في تعزيز مهارات التفكير خارج الصندوق، من خلال طرح الأسئلة، ومحاولة العثور على أجوبة، وحلول مبتكرة للمشاكل. كما يساهم التعلم الذاتي والمستمر، في تنشيط الدماغ، وفتح آفاق جديدة للابتكار والتفكير الإبداعي.
ثالثا: بناء العادات الإيجابية في التفكير، إن العادات الإيجابية تُكتسب بالتدرب والتمرن. فبناء أي عادة يحتاج إلى وقت، وعلماء النفس يحددون إحدى وعشرين يوما لبناء العادات، لكن هذه المدة ليست ثابتة، بل يعتمد ذلك على نوع العادة، فإذا كانت سهلة ويسيرة، احتاج الأمر إلى أسبوعين أو ثلاثة، وقد تكون العادة معقدة، ومركبة، وقد يتطلب هذا الأمر إلى عدة شهور، بل إلى عادة سنوات، لأن طباع البشر مختلفة، والعادات نفسها مختلفة عن بعضها البعض؛ فمنها ما يحتاج لقوة إرادة عالية، في حين لا يحتاج البعض الآخر إلى ذلك. وعن طريق الإرادة القوية القراءة، وبالتعلم الذاتي يمكن اكتساب عادات إيجابية مثل التواصل، والتأثير والتخطيط والتنظيم واتخاذ القرار وغيرها من المهرات العقلية والحياتية الإيجابية.
رابعا: كن مبادرا، معظم الناس يظلون منتظرين حدوث شيء ما، أو أن يأتي أحد لِيهتم بهم، لِيدلهم على ما يقوموا به، هؤلاء غالبا ينتهي بهم الأمر إلى أن يعيشوا على هامش الحياة، ويصبحوا أشخاصا غير مؤثرين. أما المؤثرون، فيملكون روح المبادرة، واغتنام الفرص المتاحة، ويسابقون إلى الخيرات، كما قال الشاعر البارودي:
بادِرِ الفرصةَ واحذَرْ فَـوْتَها *** فبلوغُ العزِّ في نَيْلِ الفُرصْ
فابتَدِرْ مَسْعاك واعلَمْ أنَّ *** مَنْ بادَرَ الصيدَ مَعَ الفجرِ قَنَصْ
إن استثمار المبادرات والفرص، مهم جدًّا، كسبًا للخير، ودعوة للغير، ونشرًا للإيجابية ودفعا للسلبية. والمعرفة الآن ليست محصورة في المقررات الدراسية، ولا ما يتلقاه الطالب من مُدرسِّه، خاصة في مجتمع يتميز عصره بالانفجار المعرفي، والمعلوماتي، والتقني السريع، والمتزايد يوما بعد يوم. لذلك، يحتاج المتعلمون إلى المبادرة قصد الاستفادة من هذه الثورة المعلوماتية، لاكتساب المعرفة، وتطوير مهارتهم، وصَقل قدراتهم، وأن يخرجوا من الصندوق الذي هم فيه، حتى لا يجدوا أنفسهم على هامش الحياة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من ورثة العلم، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، إنه هو السميع العليم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن.
يجب أن تسجل الدخول لإضافة تعليق.