صورة التدوينة

يشهد العالم سباقًا محمومًا في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تتنافس الدول الكبرى على تطوير هذه التقنية وتسخيرها لمختلف المجالات، بما في ذلك المجال العسكري. وفي هذا السياق، تتصدر الولايات المتحدة والصين المشهد، حيث تخوضان حربًا باردة جديدة تتمحور حول الذكاء الاصطناعي. فهل ستتحول المعامل والجامعات إلى ساحات قتال جديدة؟ وهل ستؤدي هذه المنافسة إلى عرقلة التعاون العلمي الدولي؟

يتناول هذا التقرير التنافس الشديد بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة في تطبيقاته العسكرية. ويشير إلى أن كلا البلدين يستثمران بكثافة في هذا المجال، مع مخاوف أمريكية من تفوق الصين. ومع ذلك، تكشف دراسات حديثة أن الإنفاق الصيني على الذكاء الاصطناعي قد يكون أقل مما كان يعتقد سابقًا. كما يناقش التقرير القلق المتزايد بشأن التعاون العلمي بين البلدين، خاصة في مجال فيزياء الكم، حيث تتهم الولايات المتحدة الصين باستغلال الباحثين الغربيين لأغراض عسكرية.

على مدى السنوات الخمس الماضية، رسم "جدول أعمال الذكاء الاصطناعي العالمي" استخدام المؤسسات لتقنية الذكاء الاصطناعي لدفع عجلة النمو، ونجح العالم في استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي بالفعل لتجنب العدوي، ومحاولة التعافي من مرض "كوفيد –19"، أو جائحة فيروس كورونا التي اجتاحت كوكب الأرض.

ويقول تقرير صادر عن وكالة الاستخبارات الأمريكية إن بكين قطعت خطوات عسكرية هائلة في السنوات الأخيرة، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى القوانين المحلية التي تجبر الشركاء الأجانب على إفشاء أسرار تقنية مقابل الوصول إلى السوق الصينية الواسعة.

ويشير التقرير المعنون "القوة العسكرية الصينية" إلى أن القوة العسكرية المتزايدة للصين تعني أن لديها قدرات متقدمة في الجو والبحر والفضاء وفي الفضاء الإلكتروني "ستمكن الصين من فرض إرادتها في المنطقة". ونتيجة "للحصول على التكنولوجيا بأي وسيلة متاحة"، أصبحت الصين الآن في الطليعة في مجموعة من التقنيات، ويحذر البنتاغون من أن الصين لديها بعض أنظمة الأسلحة الأكثر تقدمًا في العالم، ويري أن الصين أصبحت الآن في المقدمة.

وقال التقرير إن الصين تطور قاذفات شبح متوسطة وطويلة المدى قادرة على ضرب أهداف إقليمية وعالمية، ويشير إلى أن مثل هذه الطائرات من المرجح أن تصل إلى القدرة التشغيلية الأولية بحلول عام 2025.

ويري الأمريكيون أن الصين تحتفظ بالكثير من سر تطورها العسكري من خلال إجراء أبحاث في مجمعات تحت الأرض، بعيدًا عن أعين المتطفلين والأقمار الاصطناعية، وتبعا لتقديرات علماء الذكاء الاصطناعي، فإن حرب الذكاء الاصطناعي العسكري قد بدأت بالفعل، وأنها تهيمن على الإستراتيجية العسكرية في الولايات المتحدة والصين، لكن هل هذه التكنولوجيا العسكرية جاهزة للاستخدام حاليا؟

الإجابة نعم، ربما تنفق الصين أكثر من الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتُظهر التقديرات الأمريكية الجديدة مقدار المبالغة في استثمارات الصين في الذكاء الاصطناعي.

حرب الذكاء الاصطناعي العسكري

في خطاب ألقاه أحد كبار جنرالات سلاح الجو الأمريكي في عام 2018، توقع أن الصين ستنفق 70 مليار دولار بحلول عام 2020، على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ارتفاعًا من 12 مليار دولار في عام 2017. وقد ساعد هذا التقدير في إثارة مخاوف عميقة داخل مجتمع السياسة من أن الولايات المتحدة ستخسر بشدة فيما يسمى بسباق التسلح للذكاء الاصطناعي.

كما تقول الرواية، فإن الصين تنفق بشكل كبير ليس فقط في البحث الشامل، ولكن على وجه التحديد في الذكاء الاصطناعي العسكري، وإذا لم تتخذ الولايات المتحدة خطوات هجومية للحاق بالركب، فسيكون مصير البلاد - والديمقراطية - هو الفشل.

لكن التقديرات الجديدة الصادرة عن مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة (CSET) تُظهر أن الصين تنفق على الأرجح على الذكاء الاصطناعي أقل بكثير مما كان يُفترض سابقًا. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن معظم أموالها الخاصة بالذكاء الاصطناعي تذهب إلى أبحاث غير متعلقة بالجيش، مثل تطوير الخوارزميات الأساسية، وأبحاث الروبوتات، وتطوير البنية التحتية الذكية، وعلى النقيض من ذلك، يخصص الإنفاق الأمريكي المخطط للسنة المالية 2020 غالبية ميزانية الذكاء الاصطناعي للدفاع.

قام الباحثون في مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بتقدير حدود استثمارات الذكاء الاصطناعي في الصين لعام 2018، ولديهم ثقة عالية في أن تحليلهم يؤكد على الأقل أن إنفاق الصين ليس قريبًا من المطالبات الحالية، وأن هناك قدر كبير من المبالغة وإثارة الخوف التي تهيمن على الأمريكيين حول استراتيجية الذكاء الاصطناعي.

لكن الخبراء حذروا من أن هذا الموقف يمكن أن يضر في النهاية بتطوير الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة من خلال التركيز كثيرًا على الذكاء الاصطناعي العسكري، والتركيز القليل جدًا على المزيد من الأبحاث الأساسية، من خلال اقتراح ضوابط شاملة على الصادرات تقوض الشركات الأمريكية، وتقيد أنواع التعاون الدولي التي قامت عليها الشركات الكبرى.

شبهات التجسس تهدد العلم العابر للحدود

منذ مطلع القرن العشرين فتحت فيزياء الكّم مجال البحث والغوص في الأسرار الداخلية للمادة والكون المجهول، فشرع الباحثون في دراسة الجزيئات الأساسية للمادة مثل الذرات والنيوترونات والفوتونات والكواركات وما شابهها.

وفي ظل التطور التكنولوجي المتسارع بدأت ترتسم في الأفق ملامح ثورة تكنولوجية جديدة يؤكّد العلماء أنها ستكون قائمة على فيزياء الكمّ، ويمكننا إيجاد تطبيقات الفيزياء الكمومية في مختلف مجالات حياتنا اليومية، مثلاً في أجهزة قراءة الباركود، والليزر المستخدم في العمليات الطبية، والساعات الذرية فائقة الدقة المستخدمة في أنظمة التوجيه والملاحة بالأقمار الصناعية، ومجموعة واسعة من الأجهزة الدقيقة الأخرى.

لا يعتبر كل ذلك سوي غيضاً من فيض ما سنشهده في المستقبل القريب، حيث سنشهد عما قريب ثورة رقمية آخذة بالتشكل حالياً، لتقنية لها القدرة على تغيير وجه كل من الحرب العادية والإلكترونية، مع تطورات مثل الاتصالات فائقة الأمان، والرادار الذي يمكنه اكتشاف الطائرات "الشبحية"، وأنظمة الملاحة الجديدة.

الصين والولايات المتحدة ودول أخرى تضخ المليارات في بحوث الكم، وفي الغرب، هناك مخاوف من أن الصين سوف تمضي قدما، وتحذر شركة استخباراتية ناشئة تدعى سترايدر من أن الصين تستغل علماء الكم الغربيين لأغراض عسكرية. الأدلة واهية، لكن التوترات تتصاعد.

يزعم التقرير أن الصين تتقدم في مجال الكم من خلال "استغلال تمويل الحكومات الغربية لتمويل الأبحاث لتدريب علماء الكم الصينيين في معاهد البحوث الغربية." ويعرض التقرير تفاصيل الشراكة الوثيقة بين جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين، وجامعة هايدلبرغ الألمانية، بالإضافة إلى العديد من المدارس الغربية الأخرى. كما يشير إلى العديد من العلاقات بين الجامعة ومقاولي الدفاع الذين تمولهم الحكومة الصينية والذين استثمروا مؤخرًا وتقدموا في تكنولوجيا الكم.

استنتج التقرير أن الصين تستخدم بشكل فعال التمويل والتعاون الأوروبي والأمريكي لتطوير التطبيقات العسكرية للتكنولوجيا الكمومية، لكن العلماء، بمن فيهم عميد قسم الفيزياء في جامعة هايدلبرغ، يشككون في الاتهامات ويحذرون من إغلاق العلاقات العلمية الدولية التي أمضوا حياتهم المهنية بأكملها في بنائها. ونفى في تصريح لمجلة "إم آي تي تكنولوجي ريفيو" ما تم تداوله من معلومات بشأن العمل مباشرة مع الجيش الصيني أو مقاولي الدفاع على التكنولوجيا العسكرية المتعلقة بالكم.

يعترف التقرير أنه لا يوجد لديه دليل مباشر على وجود علاقة بين الباحثين العلميين والتطبيقات العسكرية. لكنه يسلط الضوء على القلق المتزايد في واشنطن بشأن تنامي براعة الصين التكنولوجية والعسكرية.

"خطة الألف موهبة" الصينية تثير قلق الغرب

يفحص تقرير سترايدر "خطط المواهب" الصينية، وهي المشاريع التي تمولها الحكومة والتي تستخدم مكافآت التوقيع والرواتب الجذابة وتمويل الأبحاث وموارد المختبرات لجذب العلماء الصينيين والدوليين، ويؤكد التقرير أن "خطة الألف موهبة" جلبت آلاف العلماء إلى الصين وشجعتهم على العودة للوطن.

يقول تقرير سترايدر: "يتم كل هذا باسم "التعاون العلمي الدولي" بينما يتعاون نفس العلماء الصينيين المدربين في الغرب في نفس الوقت مع شركات الدفاع الصينية لتطوير التطبيقات العسكرية لتقنيات الكم.

ومع ذلك، على الرغم من اللغة القوية والاستفزازية حول "التسوية" و "استغلال" معاهد الأبحاث الغربية، إلا أن التقرير لم يصل إلى حد الزعم بالتجسس الصريح، كما فعل مكتب التحقيقات الفيدرالي في حالات العلماء الآخرين في مجلس الشيوخ الذي سمع عن برامج المواهب الصينية.

في الواقع، في الصفحة الأخيرة من التقرير، هناك حاشية سفلية يبدو أنها تقوض الادعاءات الرئيسية للتقرير الرئيسي: "في هذا الوقت، ليس لدى سترايدر أي معلومات تشير إلى أن هؤلاء العلماء أو المنظمات ساهموا عن علم أو بشكل مباشر في تطوير الجيش تطبيقات التقنيات الكمومية لمؤسسات الدفاع لجمهورية الصين الشعبية".

تحدث العلماء من مختلف البلدان الذين انضموا إلى برامج المواهب الصينية لمجلة "إم آي تي تكنولوجي ريفيو" حول الشكوك المتزايدة، لا سيما في الولايات المتحدة، بشأن عملهم عبر الحدود. قالوا إنه على الرغم من المخاوف، فإن العلم المنفتح والشفاف الذي ينخرطون فيه يفيد العالم الغربي بقدر ما يفيد الصين، وينكرون بشدة "المساومة" أو المشاركة عن علم في أي استراتيجية عسكرية صينية شاملة.

هل يمكن أن يتعايش العلم والأمن؟

ظهرت هذه التوترات علانية في واشنطن، وأعربت إدارة ترامب مرارًا عن قلقها بشأن التعاون العلمي مع الصين، مما أثار قلق العلماء الصينيين في الولايات المتحدة.

ذهب خبراء الاستخبارات والعلوم الأمريكية أمام الكونجرس في نوفمبر الماضي للإدلاء بشهاداتهم حول المخاطر التي تشكلها خطط المواهب الصينية. وحذر تقرير صدر الشهر الماضي عن لجنة الأمن الداخلي بمجلس الشيوخ من التهديدات التي تواجه التفوق العلمي والتكنولوجي الأمريكي، وتعتبر أجهزة الاستخبارات الأمريكية القدرات التكنولوجية المتقدمة للصين تهديدًا استراتيجيًا.

قال جون براون، مساعد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي لمكافحة التجسس، في جلسة استماع حديثة بمجلس الشيوخ: "تدرك الحكومة الصينية أن القوة الاقتصادية والابتكار العلمي هما مفتاح التأثير العالمي والقوة العسكرية". "تهدف بكين إلى اكتساب تقنيتنا - غالبًا في المراحل الأولى من التطوير - بالإضافة إلى خبرتنا، لتقويض ميزتنا التنافسية وإحلال الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية."

في مواجهة تأكيدات تقرير سترايدر بأن برنامجه جزء من إستراتيجية وطنية صينية لاستغلال الموارد الأوروبية والغربية لصالح الجيش الصيني، يري العلماء الغربيون أن هناك توترات بين الأمن القومي والانفتاح الأكاديمي، وتسائلوا: "فيما يتعلق بالصين، ما البديل؟ هل يجب أن نغلق؟ هل يجب أن يكون لدينا جدران جديدة؟

حتى في أوج الحرب الباردة، نجح العلماء في التواصل، وفي ألمانيا الشرقية، نعرف ما يحدث عندما تنغلق المجتمعات على نفسها وبعد هدم الجدران، كانت القوى العلمية الناعمة أول من أقام روابط جديدة مرة أخرى.. بالطبع، هناك مخاطرة في استخدام تلك المعرفة لدعم الصناعات العسكرية، ولكن هل تشكل المخاوف الأمريكية هاجسا لبدء حرب باردة جديدة؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة، وبالذات بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية وتسلم الرئيس الجديد مهام منصبه.

خاتمة:

إن التنافس بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل التعاون العلمي الدولي وأمن الدول. فمن جهة، يساهم هذا التنافس في تسريع وتيرة التطور التكنولوجي، ومن جهة أخرى، فإنه يزيد من حدة التوترات الجيوسياسية ويؤدي إلى تبادل الاتهامات والتجسس.

وفي ظل هذه الظروف، يصبح من الضروري تحقيق توازن دقيق بين الحاجة إلى الحفاظ على الأمن القومي وبين ضرورة الحفاظ على حرية البحث العلمي والتعاون الدولي. فالتاريخ يعلمنا أن الانغلاق على الذات يؤدي إلى التخلف، وأن التعاون العلمي هو مفتاح التقدم والازدهار.