صورة التدوينة

المقاصد العامة للغة العربية وأثرها في فهم النصوص
كاتب المقال : دكتور /محمد إبراهيم حسن عثمان، جامعة السلطان عبدالحليم معظم شاه الإسلامية العالمية(UNISHAMS) بماليزيا
المقصد العام من الكلام أو من وظيفة اللسان هو إيصال المعنى وتحقيق الفائدة بأفضل الكلمات المناسبة للمقام التي تقال فيه، وحتى يتم هذا المقصد يلجأ المتكلم الى أمور منها التأكيد والمبالغة والاختصار والاطناب والتخفيف. . الخ، ومن أجل معرفة أسرار اللغة لجأ العلماء (العرب وغير العرب) إلى نظريات كثيرة مثل نظرية المدرسة الوصفية، والتحولية . . . الخ
وقد ظهرت مدارس لغوية جديدة بعد المدرسة الوصفية نادت بضرورة تجاوز وصف اللغة إلى تفسيرها، والتعليل لأحوالها ومن أشهرها المدرسة التحويلية حيث يؤمن رائدها العالم الأمريكي تشومسكي "بأن أي لغة بشرية طبيعية تخضع لنظام دقيق يختفي وراء قواعدها في النحو والصرف، فتفسير اللغة سعي للبحث عن السر الذي يجعل القاعدة النحوية صحيحة منتجة لعدد لانهائي من التطبيقات"( ).
إنَّ من يتتبع بدقة وتأني مسائل وقواعد النحو والصرف واللغة عامة تظهر له حكمة هذه اللغة ونظامها البديع، ودقتها في التعبير عن أدق الأمور، ومن فوائد البحث في مقاصد اللغة( ) أنها تجمع القضايا المتفرقة المتشابهة في مكان واحد، وتربط بين الأشباه والنظائر، كما تساعد على التوصل إلى العلاقات بين القضايا المختلفة، كالعلاقة مثلا بين الحذف وكثرة الاستعمال.
وسنذكر بعض الأمثلة على هذه المقاصد:
1- مقصد التبيين والتوضيح ومما يفيد التبيين: الحال؛ فمن أقسامها الحال المبينةـ وهى المؤسسةـ وهو الغالب فيها، ويقابلها المؤكدة، وذلك لأنها تبين هيئة صاحبها، وكذلك التمييز، سماه العلماء المفسِّر والمبين.
2- التخصيص: والتخصيص علة التقديم في كثير من المقدمات كتقديم الخبر في نحو قوله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
[المائدة: ١٢٠].
3- التوكيد: كما في ضمير الفصل يأتي للتوكيد كقوله تعالى: (أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الشورى: ٥].
4- المبالغة: مثل التاء في آخر كلمة راوية أو علامة.
5- التخفيف: مثل قلب الواو ياء في مصدر صام فيقولون صيام، والأصل صِوام.
6- ويتفرع عن التخفيف: كراهية توالي الأمثال: مثل: حذف إحدى الهمزتين من المضارع المبدوء بالهمزة في نحو أكرم؛ لأن الأصل: أُأْكرم فلما اجتمع فيه همزتان كرهوا اجتماعهما فحذفوا إحداهما.
وسأكتفي بهذه الأمثلة لضيق المقام

والحديث عن مقاصد اللغة جاء مبثوثا في كتب القدامى ، ذكرها د. مصطفي أحمد عبد العليم مقال على شبكة الإنترنت في مقالة في المقاصد العامة للنحو العربي "رؤية جديدة للعلل النحوية".
ولفظ المقاصد لم يرد إلا قليلا في كتبهم من ذلك: ما قاله المرادي في مقدمة كتابه الجنى الداني: (فإنه لما كانت مقاصد كلام العرب، على اختلاف صنوفه، مبنياً أكثرها على معاني حروفه، صرفت الهمم إلى تحصيلها، ومعرفة جملتها وتفصيلها) وله كتاب في شرح الألفية أطلق عليه اسم: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك. وجاء في كتاب الموافقات للشاطبي: (عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ إِعْجَازُ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ كَلَامِ الْعَرَبِ؛ إِنَّمَا مَدَارُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ: حَالِ الْخِطَابِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْخِطَابِ، أَوِ المخاطِب، أَوِ المخاطَب، أَوِ الْجَمِيعِ؛ إِذِ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ فَهْمُهُ بِحَسَبِ حَالَيْنِ، وَبِحَسَبِ مُخَاطَبَيْنِ، وَبِحَسَبِ غَيْرِ ذَلِكَ؛ كَالِاسْتِفْهَامِ، لَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَيَدْخُلُهُ مَعَانٍ أُخَرُ مِنْ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ) ولم يفرد القدماء مصنفا مستقلا عن المقاصد، بل هو داخل ضمن كتبهم، كما في الخصائص لابن جني، وابن الأنباري في كتابه أسرار العربية والسيوطي.
ويمكن القول إن كلام القدامى عن العلل وأصول النحو قد تضمن كثيرا من المقاصد العامة للغة ولكنهم لم يطلقوا هذا المصطلح عليها. وقد بدأ ابن مالك ألفيته بذكر مقاصد النحو حيث قال:
وأستعين الله في ألفيّه
مقاصد النّحو بها محويّه

لكنه لم يتناول قضية المقاصد، بل كان الحديث عن المسائل الجزئية والفرعية في النحو والصرف، فلم يعنى بالمقاصد العامة للغة، وإنما شرح قواعد النحو والصرف، ومن يقرأ هذا القواعد يمكنه أن يصل إلى مقاصد النحو، إذن يمكننا القول إن العلماء القدامى لم يتحدثوا عن مقاصد اللغة حديثا مستقلا.
وأما العلماء المحدثون فقد أشار بعضهم إلى ذلك إشارات عابرة فقد تحدث الدكتور تمام حسان عن مبدأ عام يحكم النشاط الذي قام به النحاة هو (الفائدة والصواب وأمن اللبس) لكنه لم يفصل القول في هذه الغايات الثلاث.
والمقاصد العامة تتفاوت كثرة وقلة وقوة وضعفًا، فالإفادة، وأمن اللبس تعد من المقاصد الكبرى التي تسعى إليها القواعد النحوية .
وهذه المقاصد منها ما هو معنوي مثل: الإفادة وأمن اللبس والتخصيص والتوكيد والمبالغة، والإيضاح والتبيين، ومنها ما هو لفظي مثل: التخفيف وكراهة توالي الأمثال والاختصار والتعويض، ومنها ما هو معنوي لفظي مثل: التوسع والمناسبة.
ونتكلم الآن عن دور هذه المقاصد في فهم الأحاديث النبوية، ونبدأ بالكلام عن مقصد الإفادة وأثره في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسل
الإفادة:
الإفادة مقصد مهم من مقاصد اللغة وقد عبر ابن مالك عن ذلك بقوله: كلامنا لفظ مفيد كاستقم
وهنا لفظ استقم كلمة واحدة في الظاهر لكنه جملة مفيدة عبارة عن فعل وفاعل مستتر، وقد اهتم النحاة بمقصد الفائدة هذا ومن ذلك: منع النحاة الابتداء بالنكرة إذا لم تحقق فائدة يقول ابن مالك:
ولا يجوز الابتدا بالنكره
مالم تفد كعند زيد نمره

وجاء في كتب النحاة: في مسوغات الابتداء بالنكرة "وحد المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً وإلا فلا فائدة في الإخبار عنه، فإن لم يكن منعوتاً ولا مخصوصاً ولا مستفهماً (عنه) ولا منفياً نحو: (لَا لَغْوٌ فِيهَا)، فلا يخبر عنه، إلا أن يكون الخبر مجروراً معرفة مقدماً (عليه)"( ). لذلك تأتي بعض الأحاديث كلمتين فقط: مبتدأ وخبر لتحقق الفائدة ومن ذلك حديث أبي هريرة قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ» ( ).
العين مبتدأ، والحق: خبر، وقد تمت الفائدة بهاتين الكلمتين.
وفهم هذا المقصد يجعلنا نفهم أحاديث أخرى للرسول بدأت فيها الجملة بالنكرة
ومن أمثلة الابتداء بالنّكرة في جُملة الحديث النبويّ: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا]( ).
فالمبتدأ هنا كلمة نكرة (غدوة) لكنها وصفت بشبه الجملة " في سبيل الله "، فمُسوّغ الابتداء بالنّكرة في الحديث هنا أنّ النّكرة موصوفة بالجار والمجرور، فتحققت الفائدة المرجوة من العبارة، لذلك إذا خلت العبارة من هذا الوصف " في سبيل الله" فإن الفائدة المطلوبة تكون غير متحققة، وبالتالي لا يتحقق الفهم السليم للحديث الشريف، والمبتدأ النكرة - أيضًا – هنا مقترن بلام الابتداء.
ومن ذلك أيضا: حديث عامر الشَّعْبِي أن رجلا قال له: يَا أَبَا عَمْرٍو، إِنَّا نَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ كَالرَّاكِبِ بَدَنَتَهُ، فَقَالَ عَامِرٌ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ. وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ]( ).
فجاء المبتدأ " ثلاثة " نكرة، والخبر " لهم أجران " جُملة اسميّة، والنّكرة هنا موصوفة بما سمّاه النّحاة (الوصف التّقديريّ)( )، وهو الّذي يكون محذوفًا من الكلام، لكنّه على تقدير ذِكْره في الكلام، وتقدير الكلام هنا: ثلاثة رجال، أو رجال ثلاثة. إذن هنا صحت العبارة لأن الفائدة قد تحققت، ففهم الحديث لفهم هذه الفائدة.
ثانيا مقصد الاختصار:
ونتحدث الآن عن مقصد آخر له أهميته في فهم كلام النبي صلى الله وسلم وهو مقصد الاختصار
والاختصار هو جل مقصود العرب وعليه مبني أكثرهم كلامهم( )، يقول أبوهلال العسكري: إن الِاخْتِصَار هُوَ إلقاؤك فضول الْأَلْفَاظ من الْكَلَام الْمُؤلف من غير إخلال بمعانيه( )، والاختصار من المقاصد العامة الكبرى في النحو العربي إذ تتحراه العرب كثيرًا سواء علي مستوى المفردات أم على مستوى التراكيب وهذا الاختصار له وسائله فيكون عن طريق الحذف، وعن طريق الضمائر وعن طريق العطف وعن طريق الاستبدال فالحذف إذن إحدى وسائل الاختصار، ويأتي الحذف في اللغة العربية كثيرا،
وسنتكلم عن وسيلة واحدة من وسائل الاختصار ألا وهي الحذف.
أنواع الحذف: في الحرف أو الاسم أو الفعل أو الجملة أو الحركة، ولا يكون الحذف إلا عن دليل، قال ابن جني: "قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة, وليس شيء من ذلك إلّا عن دليل عليه, وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته فأمَّا الجملة فنحو قولهم في القسم: والله لا فعلت, وتالله لقد فعلت. وأصله: أقسم بالله, فحذف الفعل والفاعل وبقيت الحال -من الجار والجواب- دليلًا على الجملة المحذوفة. وكذلك الأفعال في الأمر والنهي والتحضيض نحو قولك: زيدًا, إذا أردت: اضرب زيدًا, أو نحوه. ومنه إياك إذا حذرته, أي: احفظ نفسك ولا تضعها, والطريق الطريق, وهلا خيرًا من ذلك. وقد حذفت الجملة من الخبر نحو قولك: القرطاس والله, أي: أصاب القرطاس. وخير مقدم؛ أي: قدمت خير مقدم. وكذلك الشرط في نحو قوله: الناس مجزيون بأفعالهم، إن خيرًا فخيرًا, وإن شرًّا فشرًّا, أي: إن فعل المرء خيرًا جزي خيرًا, وإن فعل شرًّا جزي شرًّا" ( ).
وقال عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) منوهاً بقيمة أسلوب الحذف: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد في الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تُبِنْ"( )، وقد شمل الحذف معظم الأبواب النحوية مثل المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل والمفعول، والمضاف والمضاف إليه، واسم كان وخبرها والنعت. . . الخ
وإن من خصائص لغتنا العربية أنها تلجأ إلى الاختصار والإيجاز ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، ولذلك كان من أهم أصول العربية قولهم: (متى أمكن أن يكون الكلام جملة واحدة كان أولى من جعله جملتين من غير فائدة) ( ). وقد جاء في الجامع الكبير: (واعلم أن العرب قد اعتنوا بهذا الضرب من الكلام اعتناءً زائداً، ومما يدلنا على إيثار القوم قوة إيجازهم، وحذف فواصل كلامهم، ما جاءوا به من الأسماء المشروط بها ومنه قول الشاعر (رؤبة بن العجاج) (بحر الرجز):
قَالتْ بناتُ العمِ يا سَلْمى وَإنْ
كَانَ فقيراً مُعدماً؟؟ قالتْ:وإنْ

فإنهم هنا قد استغنوا بالحرف الواحد عن الكلام الكثير المتناهي في الطول)( ) فالأصل في الكلام: وإن كان فقيرا معدما فأنا أرضى به.
ويذكر الجرجانى تفسيراً مهماً لملازمة أدوات الشرط الثلاثة (ما- من – أي) معنى الشيوع في ذاتها مما يساعد على احتواء الكثير من المعاني في بنيتها الصغيرة فيقول: (اعلم أن هذه الأسماء نابت مناب "إنْ" لضرب من الاختصار والتقريب، وذلك أنه كان يجب أن يقال: إنْ تضربْ زيداً أضربْ وإنْ تضربْ عمراً أضربْ وإن تضربْ خالداً أضرب، إلى ما لا يقدر على استيفائه، ويمتنع الغرض منه، فتأتى باسم عام يشمل الجميع، وترك استعمال "إنْ" معه فقيل: منْ تضربْ أضرب، فدل على كل إنسان وقام مقام "إنْ" كما دل "كمْ" على العدد والاستفهام، وكذا ما تفعلْ أفعلْ لأن "ما" مْبهم يقع على كل شيء، فلما قصد الشياع أتى به، وجعل نائباً عن حرف الشرط. . . وهذا حكم "أي" لأنه مبهم مثل "ما" و"مَنْ " فإذا قلت: أيهم تضربْ أضربْ كان بمنزلة قولك: منْ تضرب منهم أضرب وإنْ تضربْ إنساناً منهم أضربْ)( ).
وجاء في التفسير في قوله تعالى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]:، "إن تعذبهم فأنت مالكهم، تتصرف فيهم كيف شئت، لا اعتراض عليك، وإن تغفر لمن تاب منهم فإنك أنت الغالب على أمره الحكيم في صنعه"( ).

فوائد الحذف:
يذكر علماء اللغة والبلاغة أن الحذف في الكلام لا يكون عبثاً، وإنما يكون لغرض وفائدة مثل:
التخفيف، والتعظيم، والتحقير، وشهرة المحذوف، وللتعمييم، أو زيادة اللذة باستنباط المعنى المحذوف، وغير ذلك كثير.
قال الجرجاني في هذا السياق: "ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها، إلا وحذفه أحسن من ذكره".
فمثال التخفيف: حذف الحرف من أجل التقاء الساكنين مثل اسم المفعول من الفعل المعتل قال، يكون مَقُوْوْل فتحذف الواو لتخفيف النطق، ومثال التعظيم والتفخيم قوله تعالى في وصف حال أهل الجنة:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [الزمر: 71]، فحذف جواب الشرط؛ إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف دليلاً على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه. ومن هذا الباب أيضاً، قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)} [طه: 78] ، أي: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. ومن حذف المبتدأ لأنه بلغ من الشهرة مبلغا يغني عن ذكره قوله تعالى{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]
، ويحذف الفعل للتعميم في باب التحذير كما في قوله تعالى{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، يشير الحذف هنا إلى أن هذا المفعول المذكور منهي عن المساس به بأي نوع من أنواع الأذى، ففي حذف الفعل تعميم، لا يتأتى إذا ذُكر فعلٌ بعينه( ).
وقد لاحظ الباحثون أنَّ الحذف في الحديث النبويّ الشّريف كثير جدًّا، وهو أمرٌ بَدَهِيٌّ، ومنسجمٌ مع السّمة العامّة الكبرى للحديث الشّريف؛ وهو دلالته على الحياة اليوميّة، وانبثاقه من واقع المسلمين وهمومهم الحاضرة، فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم لم يقُل حديثًا إلا على مسمع من النّاس، حتّى ما رُوي عنه عليه الصّلاة والسّلام من أدعية في جوف اللّيل، فإنّ هناك مَن سمعه وروى عنه، مثل ما روته أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنهما بشكل خاصّ، وما روته بقيّة أمّهات المؤمنين أو أنس ابن مالك رضوان الله عليهم جميعًا. وقد كان النّاس محيطين بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في اللّيل والنّهار، والسِّلْم والحرب، في المسجد وفي البيت، وهو دائم التّبشير، والإنذار، والنّصح، والتّوجيه، والتّعليم يسعى إلى النّاس فيدلّهم، ويُذكّرهم فيسألونه، ويستمعون إليه، وخلال هذه الحياة المستمرّة، والسّيرة المعطّرة، قيلت الأحاديث النّبويّة الشّريفة، مبادرة بأمر أو نهي، أو ردًّا على سؤال، أو حسمًا لحوار، أو دعوة بخير، أو توجيهًا لمسير، أو تصحيحًا لقول؛ لذا فإنّ (الدّليل الحاليّ أو المقاليّ) - كما ذكر ابن هشام في "مغني اللّبيب" وغيرُه من أهل اللّغة - على ما قد يُحذف من القول لدلالة السّياق عليه قائمٌ حاضرٌ دومًا، وهذا الّذي دعا الباحثين الّذين دقّقوا في لغة الحديث إلى القول بأنّ سمة الحذف في الحديث النّبويّ سمة بارزة منتشرة لا تكاد تُحصى.
وقد وقع الحذف في الحديث النبويّ الشّريف في الأدوات، وفي أركان الجملة ومكمّلاتها، وفي كلّ نمط من أنماطها، وفي المبتدأ وفي الخبر وفي الفاعل وفي المفعول، وقد خلص الباحثون اللّغويّون إلى أنّ المتأمّل في شواهد الحذف في الحديث الشّريف يجد أنّها تتسم بنمط عالٍ في أسلوب التّعبير، يُحقّق أسمى ما حاول علماء البلاغة أن يُصوّروه في كتبهم، ولعلّ من المناسب ذكر بعض الأمثلة من الأحاديث الصّحيحة المرويّة في صحيحي البخاريّ ومسلم:
مثال حذف الجملة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: . . . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن عوف: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: «فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟» فَقَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»( )، وتقدير القول: أوْلِمْ ولو أولمتَ بشاة كفاك، فحذف من الكلام جملة جواب الشرط.
وتدلّ هذه الأحاديث النّبويّة الشّريفة على جمال التّعبير عندما يكون الحذف متّسقًا، ونابعًا من دلالة السّياق، ووضوح المعنى، وهذا الّذي دفع عبد القاهر الجرجانيّ إلى القول في (دلائل الإعجاز في علم المعاني): "هذا باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسِّحْر، فإنّك ترى به ترك الذّكْر، والصَّمت عن الإفادة، أزيد للإفادة، وتجدك أنْطَقَ ما تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ، وهذه جملة قد تنكرها حتّى تُخْبَر، وتدفعها حتّى تَنْظُر".
حذف الفعل المضارع:
مثاله حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: . . . فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، قالت - يعني أمّ حرام بنت ملحان -: فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: [نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) وتقدير الكلام: يُضحكني ناسٌ من أمّتي.
يتبين مما سبق أن فهم المقاصد العامة للغة العربية كالإفادة والاختصار -على سبيل المثال- له أثر في الفهم الصحيح لنصوص الحديث النبوي الشريف وفهم دلالاتها وما يترتب عليها من أحكام.